هذا الموضوع منقول عن مجلة النبأ من الرابط
http://www.annabaa.org/nba52/naqad.htmللاستاذ ... مصطفى السادة
يعتقد المؤرخون والباحثون في حياة المجتمعات والأمم وبعد دراسات وبحوث عديدة أن سقوط الحضارات والثقافات ليس من الضروري أن يكون بسبب الغزو الاستعماري الخارجي - كما قد يعتقد البعض بنظرية المؤامرة الخارجية - وهذا لا يقلل من أهمية وخطورة هذا العامل في السيطرة على الشعوب والمجتمعات عن طريق زرع ثقافة الهيمنة والاستلاب الثقافي والحضاري.
فقد يكون السقوط بسبب الأمراض التي قد يصاب بها المجتمع - أي مجتمع - وبالتالي تدفع هذه الأمراض المجتمع نحو السقوط في الهاوية.
وهذا ما تؤكده الدراسات التاريخية كما يذكر الباحث والمؤرخ البريطاني توينبي Tounbee بعد دراسة مستفيضة للحضارات وأسباب نشوئها وسقوطها إذ يؤكد:
إن الأمم لا تعتل بل تنتحر أي أن النخب المسيطرة تدخل في حالة نزاع دائم تعجز عن ابتكار حلول تحظى بالإجماع لمشكلاتها الحياتية المتراكمة والمتأزمة، وان حالة النزاع الدائم مع العقم عن إيجاد الحلول يدفع الناس العاديين إلى تقبل الحكم الأجنبي في المرحلة الأولى ثم الانحلال في آخر الأمر(1).
وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرناً من الزمان كما في قوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...)(2).
حيث تقرر الآية الشريفة أن التنازع طريق إلى الفشل في التعايش مع الجماعة الواحدة، وضمن سياج أو سور كلي، أو ضمن ما يصطلح عليه في علم النفس المعاصر العقد الاجتماعي الذي نحتاج إليه جميعاً ويقوم على عدة أسس مهمة تلزم الإنسان بمراعاتها أثناء عملية التعايش مع اقرار المجتمع وكما يقرر القرآن عملية التعايش في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (3) فالتعايش حاجة بشرية شريطة أن يرتبط بالعقد الاجتماعي الذي يعني الخروج من نفق العزلة والفردية التي تكاد تطفو على السطح الاجتماعي كمشكلة حقيقية.
التقوقع على الذات والبقاء داخل عنق الزجاجة من المشكلات الخطيرة التي تعاني منها بعض الجماعات - باسم النخبوية أو حماية الذات أو العمق الفكري - في عالمنا الإسلامي ويستطيع الباحث رصد هذه الحالة في عدة مشخصات:
- عدم الإيمان بالآخر كمنافس يحقق ذاته وموقفه في الواقع الاجتماعي.
- عدم التعاطي مع تراث الآخر ثقافياً وفكرياً، مع قدرته على إثبات الذات.
- عدم الانسجام مع مواقف الآخر مع ما تحمله من إيجابية وقدرة على خلق تموجات حقيقية كرصيد اجتماعي.
- القطيعة مع الآخر وهذه نتيجة طبيعية للمقدمات السابقة مما يؤدي إلى إيجاد حالة من العزلة السلبية التي يقف الدين منها موقفاً سلبياً سواء على صعيد القرآن حيث قرر أن من أهداف الإيجاد بهذه الطريقة التعارف والتعايش الاجتماعي (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) وآيات أخرى كثيرة نتيجتها الحث على الحياة الاجتماعية ضمن الأطر والدوائر المعروفة، والمتتبع لآيات القرآن يجد كماً هائلاً من الآيات هي بمثابة الخطابات الجماعية يطلقها القرآن بصيغة الجمع للمسلمين وهي في حقيقتها تكاليف جماعية.
وأيضاً رصدت السنّة المطهرة روايات عديدة عن الرسول وأهل بيته (ع).
فقد ورد عن الرسول (ص) (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)(4).
وعنه (ع) أيضاً (يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف الجماعة يركض)(5).
وعنه (ع) أيضاً (أيها الناس عليكم بالجماعة وإيّاكم والفرقة)(6).
ومن هنا تأتي أهمية التعايش والتفاعل مع الآخرين والتواصل معه أيضاً تراثاً وفكراً وثقافة، وأهم من ذلك كله التواصل عن طريق التلاقي والاستماع إليه رأياً وموقفاً وهذه المسألة - الاستماع - بمقدار ما هي على درجة كبيرة من الأهمية فعدم التفاعل معها على درجة كبيرة من الخطورة من حيث اختلال توازن السيرة المستقبلية لما تحمله في طياتها من أمراض خطيرة لها تأثيرها السلبي على المستوى الفكري والثقافي.
نحن والآخر (النقد والانتقاد)
هذا المصطلح - الانتقاد - له وقع كبير لدى بعض الأسماع الحساسة التي قد يسهل عليها تناول الآخر بالانتقاد وتسليط الأضواء على الجوانب السلبية الغامضة في فكره ولكنه غير مستعد أو قادر على إعطاء هذا الحق - حق الانتقاد - للآخر ليمارس عليه نفس هذا الدور.
ويمكن رؤية أو تشخيص الكثير - منا - ممن يحبون ممارسة هذا الحق ضد الآخر وبعنف أيضاً. قد يصل إلى هذا الاسقاط - ويمتلكون القدرة العالية والأدبيات الفكرية والمصطلحات الأدبية المتموجة التي ينطلقون منها كما في علم اللسانيات وكما هو حال فكر واضع علم السفسطة الفيلسوف المعروف بروتاجوراس اليوناني القائم على القدرة الأدبية التي تجعل السامع يخضع للقول ويحكم وفق ما هو مطلوب(7) وإبراز الفكر الآخر بأنه فكر طوباوي ظلامي غير قادر على الصمود، ولا يستطيع التأثير أو فكر لقيط تجميعي. ثمة أمر آخر وهو أن يعد هذا الناقد نفسه مساهماً في تدعيم الثقافة الموضوعية والجدية التي ترفع وعي الأمة ولكنه يرى في الجانب الآخر أن مناقشة هذه الأفكار النقدية ضده هي نوع من تمزيق وحدة الصف، ولا ترمز إلى المثاقفة العاقلة، بل هي نوع من اللامسؤولية يمارس ضد هذا الفكر أو ذاك بغية اقصاءه من الساحة الاجتماعية.
وهذه الأزدواجية في الممارسة ضرب من التناقض والأنانية المفرطة التي قد تلازم البعض منا وتجعله متمسكاً بمصالح الشخصية والذاتية مهما كانت الظروف والنتائج والوسائل التي قد يتذرع بها لتحقيق الجماعة التي قد لا تعرف حدوداً وقيوداً ومن أجل ذلك كله يتخذ من نقد الآخر وسيلة لتحقيق ذلك كله ولتحقيق شره لا يعرف له حدود.
ومن هنا يتأتى القول إن العملية النقدية لها وجهان قد يطل كل منهما على الآخر، وقد تحصل بسببها القطيعة التامة بين هذا الفكر وذاك.
وحتى يكون النقد مفيداً ومنصهراً في بوتقة المصلحة العامة لابد من ضوابط عديدة يقاس من خلالها النقد البناء من غيره. ولكن هناك أموراً عدة لابد من ذكرها قبل الخوض في تعداد الضوابط.
مقدمات لابد منها1 - كلنا يحب عمله ومشروعه ونهجه ويطمح إلى مستقبل مشرّق يضمن قيم السعادة ولكن البعض يحب أن يبني بطريقته الخاصة وعبر فهمه الخاص وعلى الجميع أن يتبعوه بلا نقد أو رؤية أو تقويم لمنهج أو طريقة، وهذا يلزم منه ان تكون النتيجة المرجوة من خلال هذا المنهج مزيداً من المعاناة والآلام والتصدعات ومن الضروري الإشارة إلى أن هذا النوع من الرؤية الضبابية للفكر منشؤها الحب المفرط للذات أو الجهة والجماعة الأمر الذي يدفع نحو مزيد من التشدد والتعصب للرأي وعدم التقاطع مع الآخر، وبدوره يكون معبراً إلى الاستبداد بالرأي منشأ كل المعاناة التي تعاني منها ساحتنا الإصلاحية.
وقد نتفق جميعاً على أن الوضع الذي بلغته ساحتنا وجماعاتنا أو بعض مجتمعاتنا الإسلامية وما نعانيه من مشاكل خطيرة ونواجهها جميعاً تعود إلى سبب واحد. وهو عدم قدرة البعض منا على التعايش مع الآخر سواء في الدوائر الضيقة أم الواسعة، بل قد يكون ضمن الدوائر الأضيق - بروح إيجابية فقد سبب هذا الأمر مجموعة من التداعيات تستدعي الالتفات إلى أننا بصدد مواجهة أزمة خطيرة تعيشها أغلب الجماعات الإسلامية ويمكن إرجاعها في معظم حالاتها إلى عجزنا الفكري والسلوكي على المستوى الفردي - بسبب عدم فهمنا للنصوص الإسلامية بصورة دقيقة - لعدم قدرتنا على تحقيق إمكانية العيش في الذات مع الآخر ومثاقفته وممازجته فكرياً.
ومن الواقعية القول إنه لا يجب القفز على كل هذه المشكلات وابقاءها تراكمات في سلة المهملات العقلية، لأن عدم النظر إلى الخلف في الكثير من الأحيان هو قفز على واقع أخر معلوم والعبور لواقع أخر مجهول قد يحمل نتائج سلبية مدمرة، فمن دون مراجعة الماضي ودراسة الأسباب والمسببات التي عملت على وصول الوضع إلى ما نحن فيه اليوم يعد عملاً غير منطقي في عالم لا يسير إلا وفق ضوابط وقوانين(
.
وهذه الأمور جميعاً تشير إلى ضرورة توفر عنصر النقد والنقد الذاتي أولاً وصيرورته برنامجاً للمحاسبة الذاتية ثم محاسبة الآخر كما هو لسان الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) (حق على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه فإن رأى حسنة، استزاد منها وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزى يوم القيامة)(9).
2 - ومما ينبغي الاتفاق عليه أنه لا يستطيع أحدنا - سوى المعصوم - أن يدعي أنه يمتلك الحقيقة كاملاً لوحده، ومن أخطر الأمور على المستوى الفكري - كحد أدنى - أن يدعي أحدنا العصمة لفكره أو سلوكه أو يلبس بعضنا مواقفه ثوب القداسة ويعتبرها حرماً مقدساً وحصناً منيعاً، لا يجوز - بل لا يمكن - اقتحامه أو التعدي عليه، ولكنه يمتنع عن منح هذه العصمة أو القداسة لغيره، بل قد يحارب الآخر لأنه يحمل فكراً من قبيل فكره الذي يعتقد به. ويعتبر الآخر خطأً مهما كانت قوة أو عمق الموقف والاستدلال وبذلك تنشأ القطيعة ويترسخ مبدأ الانعزال في الأنفاق النفسية مع أن الواقعية تقتضي عدم ذلك، ومن التطرف الإدعاء أن رأيي صواب يحتمل الخطأ - ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، هذا فضلاً عن إدعاء عدم إمكان مجاوزة الصواب للرأي والعكس في رأي الغير.
وعند مراجعة النصوص الدينية تجد أنها تقف موقفاً سلبياً وبعيداً عن هذا الادعاء كما في قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(10).
حيث تقرر الآية أن رأيي ورأي غيري يحتمل الصواب والخطأ معاً، وهذا بخلاف القاعدة المشهورة خطأً التي يتعامل بها الجميع في تقديس آرائهم ومواقفهم ويمكن استفادة هذا المبدأ من السيرة النبوية في احترام الآخر مهما كانت قناعاته الفكرية والآيديولوجية، وفي عدم تحقير أو محاولة إسقاط الفكر المختلف لمجرد الاختلاف. لأن هذا يعني اشهار سلاح التسقيط والتهاتر الإعلامي والفكري وهذا يرفضه القرآن حتى مع غير المسلم - فضلاً عن المسلم - ففي قوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ... )(11).
3 - نحن نواجه تحديات كبيرة وخطيرة على مختلف الصعد وأكبرها التحدي في المسألة الثقافية حيث يبذل الغرب جهداً مضاعفاً في تعميق ثقافته وجعلها واقعاً أو عملة سهلة التداول ومستقبلنا مرهون بمدى قدرتنا على مواجهة هذا التحدي وفرض ثقافتنا كبديل قوي وناجح عوضاً عن الثقافات الغازية لأمتنا والهادفة إلى سلب الهوية والشخصية الإسلامية.
وبهذا نكون عنصراً فاعلاً في هذا العصر كما كان أسلافنا وثقافتنا وكما أراد لنا الإسلام أيضاً ذلك، وهذا كله لا يكون إلا بعد البحث عن نقاط وعناصر قوتنا والانطلاق نحو تعميم هذه العناصر على المسألة الإسلامية المعاصرة وفي جميع أبعادها ومن الضروري أيضاً تتبع الفيروسات القاتلة التي تقف مانعاً دون تفعيل هذه الثقافة، وبهذا تكون ثقافتنا حيوية وقادرة على الارتباط بالواقع الإسلامي بعيداً عن ثقافة التغريب والتذويب في الثقافات الأخرى التي يدعو إليها بعض المثقفين المنسلخين من شخصيتهم الإسلامية، وليس من الضروري بعد ذلك كله أن نعيش في جزر الانطواء والانغلاق الثقافي دون أن نتفاعل مع العصر وثقافته شريطة أن نمتلك القدرة على التفاعل الإيجابي، واتخاذ القرار المناسب المستقل في المسألة الثقافية وخصوصاً تلك المرتبطة بالواقع الاجتماعي ومشاكله.
4 - ثمة أسئلة عديدة لابد أن نفرغ من الإجابة عليها أولاً لنستطيع بذلك الدخول الإيجابي إلى الألفية الثالثة وبكل ثقة وفاعلية وان نكون عنصراً فاعلاً تقبله القاعدة الشعبية وتمتلك القدرة على مواكبة العصر في حركته المعرفية والمعلوماتية الهائلة، ولأجل القدرة على تحصين مجتمعاتنا وأمتنا من خطر الثورة المعلوماتية والعولمة في بعدها السلبي ومن هذه الأسئلة المطروحة.
- هل يمتلك خطابنا - وبالتالي ثقافتنا - نظرة جادة للمستقبل؟
- هل نمتلك كمثقفين إسلاميين رؤية حقيقية لما تعيشه مجتمعاتنا من مشاكل في البعد الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي، وبالتالي هل يمتلك خطابنا المعاصر عناصر القوة المؤهلة للتأثير في الآخر؟
- هل يستطيع خطابنا الثقافي إيجاد العوامل المشتركة والأرضية الصالحة للتلاقي على المائدة الواحدة التي يتغذى عليها الجميع ضمن الدائرة الإسلامية؟
- وهل يستطيع القائمون على الشأن الثقافي والتوعوي من المفكرين والباحثين المسلمين تناول المفاهيم الإسلامية بصورة صحيحة تماماً وتعكس الفهم الصحيح والدقيق للإسلام؟
هذه وغيرها من استحقاقات محاسبة المرحلة، والولوج إلى المرحلة الراهنة ومن هنا ينبغي أن يعكف أهل الفكر والقلم والتوجيه الإسلامي واستشراف المستقبل من خلالها خصوصاً في المسألة الثقافية، في عالم أصبح البعد الثقافي أهم أبعاد المرحلة وأهم اختيارات عصر العولمة والمعاصرة فمتى يمسك بزمام الثقافة ليستطيع الفعل في هذا العالم. ولذا ينبغي التركيز على خلق ثقافة جديدة تمتاز بالاستثنائية والشجاعة وهي ثقافة المراجعة ونقد الذات قبل نقد الآخر.
يتبع ....